الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»
.تفسير الآية رقم (53): {قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53)}{قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ} لا تخف وقرأ الحسن {لاَ تَوْجَلْ} بضم التاء مبنيًا للمفعول من الإيجال، وقرئ {لا} من واجله عنى أوجله و{لا} بإبدال الواو ألفًا كما قالوا تابة في توبة.{يازكريا إِنَّا نُبَشّرُكَ} استئناف في معنى التعليل للنهي عن الوجل فإن المبشر لا يكاد يحوم حول ساحته خوف ولا حزن كيف لا وهي بشارة ببقائه وبقاء أهله في عافية وسلامة زمانًا طويلًا.{بغلام} هو إسحاق عليه السلام لأنه قد صرح به في موضع آخر، وقد جعل سبحانه البشارة هنا لإبراهيم وفي آية أخرى لامرأته ولكل وجهة، ولعلها هنا كونها أوفق بإنباء العرب عما وقع لجدهم الأعلى عليه السلام، ولعله سبحانه لم يتعرض ببشارة يعقوب اكتفاءً بما ذكر في سورة هود، والتنوين للتعظيم أي بغلام عظيم القدر {عَلِيمٌ} ذي علم كثير، قيل: أريد بذلك الإشارة إلى أنه يكون نبيًا فهو على حد قوله تعالى: {وبشرناه بإسحاق نَبِيًّا} [الصافات: 112]..تفسير الآية رقم (54): {قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَ تُبَشِّرُونَ (54)}{قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِى} بذلك {على أَن مَّسَّنِىَ الكبر} وأثر في والاستفهام للتعجب، و{على} عنى مع مثلها في قوله تعالى: {وآتى المال على حبه} [البقرة: 177] على أحد القولين في الضمير، والجار والمجرور في موضع الحال فيكون قد تعجب عليه السلام من بشارتهم إياه مع هذه الحال المنافية لذلك، ويجوز أن يكون الاستفهام للإنكار و{على} على ما سمعت عنى أنه لا ينبغي أن تكون البشارة مع الحال المذكورة. وزعم بعض المنتمين إلى أهل العلم أن الأولى جعل {على} عنى في مثلها في قوله تعالى: {وَدَخَلَ المدينة على حِينِ غَفْلَةٍ} [القصص: 15] وقوله سبحانه: {واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين على مُلْكِ سليمان} [البقرة: 102] لوجهين الاستغناء عن التقدير وكون المصاحبة لصدقها بأول المس لا تنافي البشارة، وهو لعمري ضرب من الهذيان كما لا يخفى على إنسان. ثم إنه عليه السلام زاد في ذلك فقال: {فَ تُبَشّرُونَ} أي فبأي أعجوبة تبشرون أو بأي شيء تبشرون فإن البشارة بما لا يقع عادة بشارة بغير شيء. وجوز أن تكون الباء للملابسة والاستفهام سؤال عن الوجه والطريقة أي تبشرون ملتبسين بأي طريقة ولا طريق لذلك في العادة.وقرأ الأعرج {بشرتمون} بغير همزة الاستفهام، وابن محيصن {لإِحْدَى الكبر} بضم الكاف وسكون الباء.وقرأ ابن كثير بكسر النون مشددة بدون ياء على إدغام نون الجمع في نون الوقاية والاكتفاء بالكسرة عن الياء.وقرأ نافع بكسر النون مخففة، واعترض على ذلك أبو حاتم بأن مثله لا يكون إلا في الشعر وهو مما لا يلتفت إليه، وخرج على حذف نون الرفع كما هو مذهب سيبويه استثقالًا لاجتماع المثلين ودلالة بإبقاء نون الوقاية على الياء. وقيل: حذفت نون الوقاية وكسرت نون الرفع وحذفت الياء اجتزاءً بالكسرة وحذفها كذلك كثير فصيح وقد قرئ به في مواضع عديدة، ورجح الأول بقلة المؤنة واحتمال عدم حذف نون في هذه القراءة بأن يكون اكتفى بكسر نوع الرفع من أول الأمر خلاف المنقول في كتب النحو والتصريف وإن ذهب إليه بعضهم.وقرأ الحسن كابن كثير إلا أنه أثبت الياء وباقي السبعة يقرؤون بفتح النون وهي نون الرفع..تفسير الآية رقم (55): {قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55)}{قَالُواْ بشرناك بالحق} أي بالأمر المحقق لا محالة أو باليقين الذي لا لبس فيه أو بطريقة هي حق، وهو أمر من له الأمر القادر على خلق الولد من غير أبوين فكيف بإياده من شيخ وعجوز {فَلاَ تَكُن مّنَ القانطين} أي الآيسين من خرق العادة لك فإن ظهور الخوارق على يد الأنبياء عليهم السلام كثير حتى لا يعد بالنسبة إليهم مخالفًا للعادة، وكأن مقصده عليه السلام استعظام نعمته تعالى عليه في ضمن التعجب العادي المبني على سنة الله تعالى المسلوكة فيما بين عباده جل وعلا لا استبعاد ذلك بالنسبة إلى قدرته جل جلاله، فإنه عليه السلام بل النبي مطلقًا أجل قدرًا من ذلك، وينبئ عنه قول الملائكة عليهم السلام: {فَلاَ تَكُن مّنَ القانطين} على ما فيه من المبالغة دون أن يقولوا: من الممترين ونحوه..تفسير الآية رقم (56): {قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56)}{قَالَ وَمَن يَقْنَطُ} استفهام إنكاري أي لا يقنط {مِن رَّحْمَةِ رَبّهِ إِلاَّ الضآلون} أي الكفرة المخطئون طريق معرفة الله تعالى فلا يعرفون سعة رحمته وكمال علمه وقدرته سبحانه وتعالى، وهذا كقول ولده يعقوب: {إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون} [يوسف: 87] ومراده عليه السلام نفي القنوط عن نفسه بأبلغ وجه أي ليس بي قنوط من رحمته تعالى وإنما الذي أقول لبيان منافاة حالي لفيضان تلك النعمة الجليلة علي، وفي التعرض لعنوان الربوبية والرحمة ما لا يخفى من الجزالة.وقرأ ابن وثاب. وطلحة والأعمش. وأبو عمرو في رواية {القانطين} والنحويان. والأعمش {يَقْنَطُ} بكسر النون، وباقي السبعة بفتحها، وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما. والأشهب بضمها، وهو شاذ وماضيه مثله في التثليث. واستدل بالآية على تفسير {الضالين} بما سمعت لما سمعت من الآية على أن القنوط وهو كما قال الراغب: اليأس من الخير كفر، والمسألة خلافية، والشافعية على أن ذاك وكذا الأمن من المكر من الكبائر «للحديث الموقوف على ابن مسعود أو المرفوع من الكبائر الإشراك بالله تعالى واليأس من روح الله تعالى والأمن من مكر الله تعالى» وقال الكمال بن أبي شريف: العطف على الإشراك عنى مطلق الكفر يقتضي المغايرة فإن أريد باليأس إنكار سعة الرحمة الذنوب وبالأمن اعتقاد أنه لا مكر فكل منهما كفر اتفاقًا لأنه رد للقرآن العظيم، وإن أريد استعظام الذنوب واستبعاد العفو عنها استبعادًا يدخل في حد اليأس وغلبة الرجاء المدخل له في حد الأمن فهو كبيرة اتفاقًا اه وقد تقدم الكلام في ذلك فتذكر..تفسير الآية رقم (57): {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57)}{قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ} أي أمركم وشأنكم الخطير الذي لأجله أرسلتم سوى البشارة {أَيُّهَا المرسلون} لعله عليه السلام علم أن كمال المقصود ليس البشارة من مقالة لهم في أثناء المحاورة مطوية هنا، وتوسيط {قَالَ} بين كلاميه عليه السلام مشيرًا إلى أن هناك ما طوى ذكره، وخطابه لهم عليهم السلام بعنوان الرسالة بعد ما كان خطابه السابق مجردًا عن ذلك مع تصديره بالفاء ظاهر في أن مقالتهم المطوية كانت متضمنة ما فهم منه ذلك فلا حاجة إلى الالتجاء إلى أن علمه عليه السلام بأن كل المقصود ليس البشارة بسبب أنهم كانوا ذوي عدد والبشارة لا تحتاج إلى عدد ولذلك اكتفى بواحد في زكريا ومريم عليهما السلام ولا إلى أنهم بشروه في تضاعيف الحال لإزالة الوجل ولو كانت تمام المقصود لابتدأوا بها على أن فيما ذكر بحثًا فقد قيل: إن التعذيب كالبشارة لا يحتاج أيضًا إلى العدد؛ ألا يرى أن جبريل عليه السلام قلب مدائنهم بأحد جناحيه، وأيضًا يرد على قوله: ولذلك اكتفى إلخ أن زكريا عليه السلام لم يكتف في بشارته بواحد كما يدل عليه قوله تعالى: {فَنَادَتْهُ الملئكة وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلّى فِي المحراب أَنَّ الله يُبَشّرُكَ بيحيى} [آل عمران: 39] وأما مريم عليها السلام فإنما جاءها الواحد لنفخ الروح والهبة كما يدل عليه قوله: {لاِهَبَ لَكِ غلاما زَكِيًّا} [مريم: 19] وقوله تعالى: {فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا} [الأنبياء: 91] وأما التبشير فلازم لتلك الهبة وفي ضمنها وليست مقصودة بالذات، وأيضًا يخدش قوله: ولو كانت تمام المقصود لابتدأوا بها ما في قصة مريم عليها السلام قالت: {إِنّى أَعُوذُ بالرحمن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا قَالَ إِنَّمَا أَنَاْ رَسُولُ رَبّكِ لاِهَبَ لَكِ غلاما زَكِيًّا} [مريم: 18، 19].فيجوز أن يكون قولهم: {لاَ تَوْجَلْ} [الحجر: 53] تمهيدًا للبشارة. وأجيب عن هذا بأنه لا ورود له لأن مريم عليها السلام لنزاهة شأنها أول ما أبصرته متمثلًا عاجلته بالاستعاذة فلم تدعه يبتدئ بالبشارة بخلاف ما نحن فيه، وعما تقدم بأن المعنى إن العادة الجارية بين الناس ذلك فيرسل الواحد للبشارة والجمع لغيرها من حرب وأخذ ونحو ذلك والله تعالى يجري الأمور للناس على ما اعتادوه فلا يرد قصة جبريل عليه السلام في ذلك وإن قيل: المراد بالملائكة في تلك الآية جبريل عليه السلام كقولهم فلان يركب الخيل ويلبس الثياب أي الجنس الصادق بالواحد من ذلك قاله بعض المحققين، وتعقب ما تقدم من كون العلم من كلام وقع في أثناء المحاورة وطوي ذكره بأنه بعيد وتوسيط {قَالَ} والفاء والخطاب بعنوان الرسالة لا يقربه، أما الأول فلجواز أن يكون لما أن هناك انتقالًا إلى بحث آخر ومثله كثير في الكلام، وأما الثاني فلجواز أن تكون فصيحة على معنى إذا تحقق هذا فأخبروني ما أمركم الذي جئتم له سوى البشرى؟، وأما الثالث فلجواز أن يقال: إنه عليه السلام لم يعلم بأنهم ملائكة مرسلون من الله تعالى إلا بعد البشارة ولم يكن يحسن خطابهم بذلك عند الإنكار أو التعجب من بشارتهم، وكذا لا يحسن في الجواب كما لا يخفى على أرباب الأذواق السليمة بل قد يقال: إنه لا يحسن أيضًا عند قوله: {إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ} [الحجر: 52] على تقدير أن يكون علم عليه السلام ذلك قبل البشارة لما أن المقام هناك ضيق من أن يطال فيه الكلام بنحو ذلك الخطاب فتدبر..تفسير الآية رقم (58): {قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58)}{قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ} هم قوم لوط عليه السلام، وجيء بهم بطريق التنكير ووصفوا بالإجرام استهانة بهم وذمًا لهم..تفسير الآية رقم (59): {إِلَّا آَلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59)}{إِلا ءالَ لُوطٍ} قال الزمخشري: يجوز أن يكون استثناءً من قوم لاحظة الصفة فيكون الاستثناء منقطعًا لأنهم ليسوا قومًا مجرمين، واحتمال التغليب مع هذه الملاحظة ليتصل الاستثناء ليس مما يقتضيه المقام، ولو سلم فغير ضار فيما ذكر لأنه مبني على الحقيقة ولا ينافي صحة الاتصال على تقدير آخر، ويجوز أن يكون استثناءً من الضمير المستتر في {مُّجْرِمِينَ} [الحجر: 58] فيكون الاستثناء متصلًا لرجوع الضمير إلى القوم فقط فيكون الآل على الأول مخرجين من حكم الإرسال المراد به إرسال خاص وهو ما كان للإهلاك لا مطلق البعث لاقتضاء المعنى له، وقوله تعالى: {إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ} خبر الأبناء على ما سمعت سابقًا، وعن الرضى أن المستثنى المنقطع منتصب عند سيبويه بما قبل إلا من الكلام كما انتصب المتصل به وإن كانت إلا عنى لكن وأما المتأخرون من البصريين فلما رأوها عنى لكن قالوا إنها الناصبة بنفسها نصب لكن للأسماء وخبرها في الأغلب محذوف نحو جاءني القوم إلا حمارًا أي لكن حمارًا لم يجئ قالوا وقد يجيء خبرها ظاهرًا نحو قوله تعالى: {إِلاَّ قوميونس لما آمنوا كشفنا عنهم} [يونس: 98] وقال الكوفيون إلا في ذلك عنى سوى والنصب بعدها في الانفصال كالنصب في الاتصال، وتأويل البصريين أولى لأن المستثنى المنقطع يلزم مخالفته لما قبله نفيًا وإثباتًا كما في لكن وفي سوى لا يلزم ذلك لأنك تقول: لي عليك ديناران سوى الدينار الفلاني وذلك إذا كان صفة، وأيضًا معنى لكن الاستدراك، والمراد به فيها دفع توهم المخاطب دخول ما بعدها في حكم ما قبلها مع أنه ليس بداخل وهذا هو معنى الاستثناء المنقطع بعينه انتهى، وزعم بعضهم أن في كون إلا الاستثنائية تعمل عمل لكن خفاء من جهة العربية وقال: إنه في المعنى خبر وليس خبرًا حقيقيًا كما صرح به النحاة، ومما نقلناه يعلم ما فيه من النظر. نعم صرح الزمخشري بأن الجملة على تقدير الانقطاع جارية مجرى خبر لكن وهو ظاهر في أنها ليست خبرًا في الحقيقة وذكر أنه إنما قال ذلك لأن الخبر محذوف أي لكن آل لوط ما أرسلنا إليهم والمذكور دليله لتلازمهما ولذا لم يجعله نفس الخبر بل جار مجراه، وفيه غفلة عن كونه مبنيًا على ما نقل عن سيبويه، وزعم بعض أنه قال ذلك لأن الجملة المصدرة بأن يمتنع أن تكون خبرًا للكن فليراجع، وقيل: قال ذلك لأن المذكور إلا لا لكن وهو كما ترى، وعلى تقدير الاتصال يكون الآل مخرجين من حكم المستثنى منه وهو الإجرام داخلين في حكم الإرسال عنى البعث مطلقًا فيكون الملائكة قد أرسلوا إليهم جميعًا ليهلكوا هؤلاء وينجوا هؤلاء، وجملة {إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ} على هذا مستأنفة استئنافًا بيانًا كأن إبراهيم عليه السلام قال لهم حين قالوا: {إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ إِلا ءالَ لُوطٍ} فما حال آل لوط؛ فقالوا: {إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ} [الحجر: 58، 59] إلخ وقوله سبحانه:
|